أنامل جدتي
أَلْقَتْ كَنْزَةُ بِنَظَراتِها خَلْفَ النَّافِذَةِ، فَرَأَتْ أَشْجَارَ الْقَرْيَةِ تَهْتَزُّ بِعُنْفٍ، تَحْتَ خُيوطِ الْأَمْطَارِ الْمُنْهَمِرَةِ. وَمِنْ حينٍ لِآخَرَ، كَانَ وَمِيضُ الْبَرْقِ يَتَناهى إلى الْغُرْفَةِ، مَصْحوباً بِدَوِيَ الرَّعْدِ، فَيَبُثُ فِي جَسَدِ كَنْزَةَ رَعْشَةً قَوِيَّةً.
وَحينَ أَنْفَتَحَ باب الْغُرْفَةِ، أَطَلَّتِ الْأُمُّ تَحْمِلُ فانوساً صغيراً، أضاءَ بِنورِهِ ابْتِسامَتَها اللطيفة.
– لا تخافي يا صغيرتي !
قالَتْها الأم، ثُمَّ اتَّجَهَتْ صَوْبَ الدّولابِ، لِتَسْحَبَ مِنْهُ مَلاءَةٌ صوفِيَّةً. وَمَا إِنْ بَسَطْتَها فَوْقَ جِسْمِ كَنَزَةَ، حَتَّى صاحَتِ الصَّغيرَةُ وَهِيَ تَتَلَمَّسُ الْغِطَاءَ فِي إِعْجَابٍ:
– ما أَدْفَأَ هَذِهِ الْمَلَاءَةِ !
ثُمَّ أَضافَتْ وَهِيَ تُمْسِكُ بِيَدِ أُمِّهَا فِي لُطْف:
– لا يَنْقُصُهَا إِلَّا سِحْرُ حِكَايَاتِكِ يا أُمّي !
ابْتَسَمَتِ الْأُمُّ فِي حَنانٍ وَقَالَتْ:
أَتَعْلَمينَ يا بُنَيَّتي؟ لَقَدْ ذَكَّرَني عَويلُ الرِّياح، وَنَقَراتُ الأَمْطار بطفولتي الْجَميلة
اسْتَوَتْ كَنْزَةٌ في مَكانِها، ثُمَّ قَالَتْ في حَماس:
– كَمْ أَنا مُتَشَوَقَةٌ لِسَماع ذِكْرَياتِ طُفُولَتِكِ يا أُمي !
حَكَتِ الأُم قَائِلةً:
-حينَ كُنتُ في سِنكِ، كانَ يَحْلو لي أَنْ أَجالِسَ جَدَّتَكِ، أَتَأَمَّلُ أَنامِلَهَا، وَهِيَ تَغْزِلُ خُيوط الصوفِ.
ثُمَّ قَرَّبَتِ الْأُمُّ الْفَانوسَ مِنَ الْمَلَاءَةِ قَائِلةً:
– هَلْ تَرَيْنَ هَذِهِ الْخُطوط الْمُلَوَّنَةَ وَالْمُتَشَابِكَة يا بُنَيَّتي ؟ إِنَّها تُذَكَّرْنِي بِتِلْكَ الْأَوْقاتِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي قَضَيْتُها رُفْقَةً جَدَّتِكِ، وَهِيَ تَحيك بِأَنامِلِها الدَّقيقَةِ أَجْمَلَ الزَّرابي، وَالسَّجَادَاتِ، وَالْأَغْطِيَةِ.
تَسَاءَلَتْ كَنَزَةُ:
هَلْ هَذِهِ الْمَلَاءَةُ أَيْضاً مِنْ صُنْعَ جَدَّتي ؟
رَدَّتِ الْأُمُّ مُبْتَسِمَةً:
بالطبع يا بنيتي، وَكُلُّ هَذِهِ الزَّرَابِي وَالسَّجَادَاتِ الَّتِي تُزَيِّنُ بَيْتَنَا مِنْ إِبْداعِ جَدَّتِكِ.
قالَتْ كَنَزَةُ وَهِيَ تُقَلِّبُ الْمَلَاءَةَ بِيَدَيْهَا فِي دَهْشَةٍ:
– يَا لَهَا مِنْ تُحْفَةٍ رَائِعَةٍ إِنَّ جَدَّتِي مُبْدِعَةٌ حَقَّاً !
-أَجَلْ، وَقَدْ كُنْتُ أَسْعَدُ كَثِيراً بِمُساعَدَتِها في جَمْعِ الصّوفِ بَعْدَ جَزِّهِ مِنَ الْأَغْنَامِ. كَمَا كُنْتُ أَصْحَبُها إلى الوادي لِتَنْظِيفِهِ، وَنَشْرِهِ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ حَتَّى يَجِفٌ. وَكُنْتُ أَشارِكُها أَيْضاً في تَمْشِيطِ الصّوفِ، وَتَلْوينِهِ بِالصَّبَاغَةِ، وَغَزْلِهِ،
وَنَسْجِهِ. سَأَلَتْ كَنْزةُ أُمَّهَا قَائِلَةً:
– وَهَلْ تَسْتَطيعينَ نَسْجَ الزَّرابي أَنْتِ أَيْضاً يا أُمّي؟ مَسَحَتِ الْأُمُّ رَأْسَ ابْنَتِها وَقَالَتْ:
– نَعَمْ يا بُنَيَّتِي، لَقَدْ تَعَلَّمْتُ مِنْ جَدَّتِكِ مَهارَةَ صُنْعِ الزَّرابي وَالْأَغْطِيَةِ ، كَما تَعَلَّمْتُ مِنْهَا الصَّبْرَ أَيْضاً. فَقَدْ كُنَّا نُقَضِّي ساعاتٍ طويلةً أَمامَ الْمِنْسَجِ، وَنَحْنُ نُمَرِّرُ الْخُيوط بَيْنَ أَصابِعِنَا بِرِفْقِ وَعِنايَةٍ. وكانَ النَّوْمُ قَدْ بَدَأَ يُداعِبُ عَيْنَيْ كَنْزَةَ، حِينَ تراءى لَها طَيْفُ جَدَّتِهَا الْبَارِعَةِ، وَهِيَ جَلَسَتْ قُرْبَها خِلالَ الْعُطلَةِ الْمُقْبِلَةِ، لِتَتَعَلَّمَ مِنْهَا أَسْرَارَ الْغَزْلِ وَالنَّسيج.
تحميل الحكاية بنسخة PDF :