أصحاب الأخدود
أصحاب الأخدود هم مسيحيّو منطقة نجران، وهي إحدى محافظات المملكة العربيّة السعودية في وقتنا الحاضر، وسكان نجران كانوا يقدّسون شجرة النخيل قبل انتشار المسيحيّة، إلى أن جاءت المسيحية فاعتنقوها، وقيل أنّ سبب في اعتناقهم لهذا الدين هو دعوة فيميون، وهو رجلٌ صالح زاهد مجاب الدعاء، من أتباع عيسى بن مريم في نجران، وكانت نجران في ذلك الوقت محطّةً لاستراحة القوافل ومركزاً تجارياً مهمّاً، كانت تتبع لسلطان الدولة الحميرية.
عُرف عن ملوك اليمن القديمة أنهم كانوا يقومون بإحراق المدن وإتلافها، وأنّ هذا كان الأمر مألوفاً عندهم، حيث توجه ذو نوّاس الملك اليمنيّ إلى ظفار حيث ألحق الهزيمة بالأحباش وأتباعهم فيها، واستولى على كنيسةٍ في المدينة وقام بهدمها، وتوجّه بعدها إلى قبلة الأشاعرة وقتل منهم أعداداً كبيرة، وتوجّه نحو مخن وهدم كنيستها، وكان يدمّر ويقتل في كلّ أرض يطؤها، حتى قيل بأنّه بلغ حصيلة القتلى أكثر من ثلاثة عشر ألف شخص، بالإضافة للأعداد الكبيرة من الأسرى، واستولى على الأنعام في المناطق التي يغزوها، واتجه بعدها إلى نجران، فكان لقاؤه هناك مع قبائل كندة، وهمدان، ومذحج، حيث تعاون مع هذه القبائل في إلحاق الهزيمة بقبائل نجران والأحباش هناك، وقاموا بهدم الكنيسة فيها، حيث بلغ حصيلة القتلى فيها أكثر من اثني عشر ألفاً، وقاموا بسبي أكثر من أحد عشر ألفاً، وذكر القرآن بأنّهم حفروا أخدوداً كبيراً وأشعلوه بالنار وقاموا بإلقاء الناس فيه.
حرق أصحاب الأخدود
الكتب البيزنطيّة أشارت إلى الحريق بشكلٍ واضح، حيث إنّ النصوص البيزنطيّة تشير إلى داميانس (ذو نوّاس) ودونان، وهو من قوم تبع المعروفين في اليمن، وهو من اليهود، وقد وصله خبر وصول رجلٍ يتّبع للديانة المسيحية يقوم بتبشير الناس بها، وأنّ أهل منطقة نجران قد أحبوّه وتبعه الكثيرون، فأمر بإيجاد الشقّ الذي يعرف بالأخدود وملئه بالحطب لإحراق من يتبعه، فكان له ما طلب، وأشارت تلك النصوص إلى المذابح التي حدثت في مأرب وحضرموت، وروى السريان أحداثاً تظهر قسوة يوسف آزر في محاولته للحفاظ على ملك الحميريين، حيث كان الحميريون يصبّون الزيت الساخن على رؤوس النساء لإحراقهن وهنّ على قيد الحياة، وقيل بأنّ السريان قد بالغوا في وصف الصور المفزعة التي ذكرت في نصوصهم.
بعد الفشل في التصدي لقوّات ذي نواس، قام الملك البيزنطيّ جستين الأول بإرسال المدد لمواجهة تلك القوات ووضع حدٍ للمجازر البشعة التي ترتكب فيها، فقامت تلك القوات بإسقاط حمير وقضت على ذو نواس في تلك المعارك سنة 525م.
بعد ظهور الإسلام حضر وفدٌ من نجران إلى المدينة المنورة، حيث أرادوا من وراء زيارتهم تكذيب وتحقير محمد، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم لملاقاتهم وكان معه عليٌ وفاطمة والحسن والحسين، فقال الوفد عند رؤيتهم لهم: “هذه وجوهٌ لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها”، وقاموا بمصالحة الرسول بعدها على ألفي حلةٍ ثمن كلّ واحدة منها أربعون درهماً.
ذكرت عددٌ من المصادر بأنّ المسيحيّة بقيت في نجران حتى القرن التاسع للميلاد، الثالث للهجرة، وذكرت مصادر أخرى بأنّها دامت حتى القرن الثالث عشر للميلاد.
قصة أصحاب الأخدود في السنة النبوية
تروي الأحاديث قصة فتى شرح الله قلبه للإيمان فصبر وثبت، وآمنت قريته معه، كان هذا الفتى فطناُ نبيهاً يحيا في قريةٍ يحكمها ملكٌ يدعي الألوهيّة، كان هذا الملك يستعين بساحر، وعند تقدم هذا الساحر بالعمر وشعوره بدنو أجله، طلب من الملك أن يحضر له غلاماً يعلّمه السحر، ليحلّ محلّه ويتابع عمله بعد موته، فوقع الاختيار على هذا الغلام وتمّ إرساله للساحر، وعند ذهابه للتعلّم عند الساحر كان يمرّ في طريقه على راهبٍ جلس معه وأعجبه حديثه، فأصبح دائم التردد عليه أثناء توجهه للساحر، كان الساحر يقوم بضرب الغلام إن لم يأتي، فشكى هذا الأمر للراهب، فقال له الراهب: إن خشيت عقاب الساحر فقل له حبسني أهلي، وإن خشيت عقاب أهلك قل لهم حبسني الراهب.
عندما كان يسير الغلام في الطريق في أحد الأيام، فإذا بحيوانٍ عظيمٍ يعترض طريق الناس، فأسرّ الغلام في نفسه أمراً حيث قال اليوم سأعلم أيهم أفضل، هل هو الراهب أم الساحر، فقام بالتقاط حجرٍ ودعا في نفسه قائلاً: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، ثمّ قام برمي الحيوان فصرعه، ومضى الناس في طريقهم، فقام الغلام بالتوجّه للراهب وأخبره بكلّ ماحدث، فقال الراهب له: يا بني أنت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدلّ علي. كان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويقوم بعلاج الناس بإذن الله تعالى من جميع الأمراض، فسمع بأمره أحد جلساء الملك الذي فقد بصره، فجمع العديد من الهدايا وقام بالتوجه إلى الغلام، حيث أخبره بأنّ كلّ تلك الهدايا ستكون له إن شفي وعاد يبصر من جديد، فردّ عليه الفتى بأن الله هو الشافي وأنه لا يشفي أحداً، فإن آمنت دعوت الله لك فشفاك، فآمن الرجل وشفي بأمر الله. قام الرجل بالتوجه إلى مجلس الملك، حيث جلس إلى جوار الملك كما كان يفعل دوماً قبل أن يبصر، فسأله الملك: من ردّ عليك بصرك؟ فأجاب الرجل: ربي.
استشاط الملك غضباً وقال له: هل لك ربٌ غيري؟ فأجاب الرجل في الحال: ربي وربك الله.
ثار الملك في حينها، وأمر بتعذيبه حتى دل على الفتى، فأمر الملك بإحضار الفتى، وقال له: لقد بلغت من السحر مبلغاً عظيماُ، حتى أصبحت تشفي الأكمه والأبرص.
فرد الغلام عليه: إنّي لا أشفي أحداً، إنّما يشفي الله تعالى.
فأمر الملك بإنزال العذاب به حتى أخبر عن الراهب. أحضر الراهب، وأمر بأن يعود عن دينه، فأبى الراهب المثول لأمر الملك، فجيء بمنشارٍ ونشر من رأسه ليقع الراهب على الأرض نصفين، وتكرّر نفس الطلب على جليس الملك فرفض فكان عقابه مماثلاً للراهب، فجيء بالغلام، وأمر بالعودة عن دينه، فأبى الغلام المثول كمن سبقوه، فأمر الملك بأخذه لقمّة الجبل، وتكرار الأمر عليه، فإن رفض قاموا بالقائه من قمة الجبل.
عند وصولهم للقمة دعا الفتى ربّه بأن يكفيه شرهم، فاهتزّ الجبل وسقط الجنود عن قمته، فعاد الفتى للملك، فسأله الملك عن الجنود، فأجابه بأن الله قد كفاه شرهم، فأمر الملك جنوده بأن يحملوه في سفينةٍ، وتكرار الأمر بتخييره في عرض البحر، وتكرر الأمر ذاته في عرض البحر لتنقلب السفينة لتغرق جميع من عليها باستثناء الغلام، الذي قفل عائداً للملك ليسأله عن الجنود، ويكرر الغلام بأن الله قد كفاه شرهم، وأضاف للملك بأنه لن يستطيع القضاء عليه إلا إذا امتثل لمطلبه، فتساءل الملك عن ما يريده الغلام، فقال له الغلام: أن تجمع الناس في مكانٍ واحدٍ وتصلبني على جذع، ثم تأخذ سهماً من كنانتي، وتضع السهم في القوس وتقول بسم الله ربّ الغلام، ثم ارمني، فإذا فعلت ذلك قتلتني.
رضخ الملك لمطلب الفتى، واستبشر خيراً به فأمر بجمع الناس على الفور، وقام بصلب الفتى أمامهم، وفعل ما أمره به الفتى، وبعد أن سمّى باسم الله رب الفتى ألقى السهم فقتل الفتى، فصرخ الناس جميعاً، آمنا برب الفتى، وحدث ما كان يخشاه الملك، فأمر الملك بحفر شقٍ في الأرض وإشعال النار فيه، وتخيير الناس بالرجوع عن الدين فآثروا الحرق، إلى أن جاء دور امرأة تحمل صغيرها فخافت على صغيرها، فألهمه الله ونطق الصغير قائلاً لها: يا أماه اصبري فإنّك على الحق.